الذكاء الاصطناعي العامل.. زميلك الجديد في الحكومة

الذكاء الاصطناعي العامل.. زميلك الجديد في الحكومة


د. يسار جرار وهالة شحيدر[1] في عام 2022، كنا نتحدث عن الذكاء الاصطناعي كمجرد أداة تُستخدم في كتابة النصوص أو تحليل البيانات أو دعم الحملات التسويقية، أما اليوم، ونحن في 2025، فنشهد بزوغ عصر جديد تماماً من الذكاء الاصطناعي؛ الذكاء الاصطناعي العامل (Agentic AI)، أنظمة لا تكتفي بالاستجابة للأوامر، بل تتصرف ذاتياً، وتُخطّط، وتنفذ، وتتعلم من السياق.

المذهل في الفترة الحالية هو سرعة التطور الحاصل، قبل أقل من 4 سنوات فقط، في عام 2021، كانت اللقاحات هي أمل العالم، وكلمة “التحول” تعني الهروب من جائحة عطلت الكوكب، لم يكن الذكاء الاصطناعي في صدارة أولويات الحكومات أو المجتمعات؛ كان مجرد أداة تُستخدم من قِبل فرق التقنية لكتابة النصوص، وتحليل البيانات، أو تحسين حملات التسويق، أما اليوم، ونحن في منتصف عام 2025، فقد أصبح الذكاء الاصطناعي العامل (Agentic AI) هو الخبر الأهم، وهو ما سيعيد تشكيل الحكومات، والاقتصاد، والمجتمع ككل.
اليوم، نحن لا نتحدث هنا عن أنظمة ذكية تستجيب للأوامر فحسب، بل عن وكلاء رقميين يتصرفون ذاتياً؛ يخططون، ويتخذون قرارات، ويتعلمون من السياق، ويُنفذون المهام، بهذه السرعة الفائقة، بدأ وانتهى عصر ChatGPT لإنتاج النصوص وإجابة الأسئلة، وبدأ عصر المساعد الذكي، تخيل أن يكون في وزارات الحكومة “زميل رقمي” يعمل على مدار الساعة، يراجع آلاف الطلبات، يحلل التقارير، يصدر التوصيات، ويتواصل مع المواطنين، كل ذلك من دون أي تدخل بشري، هذا لم يعد خيالاً علمياً، بل واقع بدأ يتشكل أمام أعيننا.. وبسرعة تفوق كل التوقعات.التوقعات تشير إلى أن سوق الذكاء الاصطناعي العامل عالمياً سيبلغ 47.1 مليار دولار بحلول عام 2030، في القطاع الصحي قفزات أكبر متوقعة؛ من 538 مليون دولار اليوم إلى ما يقارب 5 مليارات دولار، مدفوعة بالاعتماد المتزايد على الوكلاء الذكيين في تقديم الرعاية عن بُعد، وإدارة الملفات الطبية، والتشخيص المبكر، وفي القطاع الخدمي والصناعي، السوق سيصل إلى 24 مليار دولار، بمعدل نمو سنوي يتجاوز 46%، وهو مؤشر على التحول الجذري في هيكلة القوى العاملة حول العالم.لكن ما الذي يميز الذكاء الاصطناعي العامل عن الجيل السابق من المساعدين الذكيين؟باختصار: الاستقلالية، الهدف، والسياق، فـAgentic AI لا يقتصر على إنتاج الردود أو تنفيذ تعليمات محددة سلفاً، بل:       يحلّل الهدف المرسوم له (Goal-Oriented Reasoning).       يفهم السياق الذي يعمل ضمنه (Context Awareness).       يستدعي البيانات تلقائياً من مصادر داخلية وخارجية عبر تقنيات استرجاع معزز بالنماذج (RAG).       يختار الأدوات البرمجية المناسبة للعمل، مثل أدوات التشغيل الآلي (n8n، Flowise).       ينفّذ الإجراءات بنفسه، ويُحدّث الأنظمة، ويراقب النتائج.       يتعلم من التجربة، من خلال حلقات تغذية راجعة داخلية (Reinforcement Learning with Human Feedback).لنتأمل مثالاً واقعياً: موظف حكومي رقمي، في وزارة الاقتصاد، يتلقى استفساراً عن قانون الشركات، يقوم الوكيل الذكي فوراً بالبحث في أرشيف القوانين، يُقارن بين النصوص، يُرجّح الجواب الأفضل، ويرسله مرفقاً بالمصدر القانوني والصفحة الدقيقة، ولا يستغرق الأمر سوى ثوانٍ.مثال آخر: مواطن يقدم طلباً إلكترونياً للحصول على رخصة تجارية، الوكيل الذكي يتولى معالجة الطلب آلياً، يتحقق من صحة المستندات، يتواصل مع الجهات المختصة، ويرسل النتيجة النهائية للمواطن في أقل من ساعة، كل ذلك دون تدخل بشري.في الحكومات التي تتعامل مع آلاف العمليات يومياً، مثل وزارات العدل أو الرقابة أو الشؤون البلدية، فإن وكلاء الذكاء الاصطناعي يقدمون نموذجاً جديداً للإدارة؛ الإدارة المستجيبة في الزمن الحقيقي.لكن التحدي الأهم لا يكمن في التكنولوجيا بحد ذاتها، بل في إعادة تصميم الحكومة حولها، لا يمكن إدخال الذكاء الاصطناعي العامل كأداة جانبية، لا بد من إعادة هندسة السياسات، والأنظمة، وهيكلية القوى العاملة.وهنا تظهر الحاجة إلى خارطة طريق عملية لتبني الذكاء الاصطناعي العامل كجزء من البنية المؤسسية: الهدف الاستراتيجي: ما هو العائد العام المتوقع؟ هل نسعى لخفض التكاليف، تحسين تجربة المواطن، أو تسريع الإنجاز؟ الدمج المؤسسي: هل تم تضمين الذكاء الاصطناعي في السياسات الحكومية، وميزانيات المشاريع، وأنظمة الموارد البشرية؟ نموذج التشغيل: من يدير هذه الوكلاء؟ ما هي الحوكمة، والضوابط الأخلاقية، ومبادئ الشفافية؟ محفظة المشاريع: هل يتم الانتقال من التجريب إلى مشاريع قابلة للتوسع تخدم المواطن فعلياً وتبني الثقة؟إن الوكلاء الرقميين ليسوا تهديداً للوظائف، بل فرصة لإعادة توجيه الكفاءات البشرية نحو وظائف ذات قيمة مضافة أعلى، وكما ساعد الحاسوب في الماضي على رفع إنتاجية الموظف، فإن الذكاء الاصطناعي العامل اليوم يمكن أن يكون الزميل الجديد لكل موظف حكومي، زميل لا ينام، لا يُخطئ بسهولة، ويتعلم من كل تجربة.في الختام، من لا يجهّز حكومته اليوم لتبني هؤلاء الوكلاء، قد يجد نفسه بعد سنوات في مؤسسات متخلفة عن الزمن، لقد بدأ السباق، والسؤال الآن؛ هل سنكون من المستخدمين، أم من المصممين؟[1] مديرة استراتيجية التكنولوجيا الحكومية والذكاء الاصطناعي في Gov Campus  تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثّل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.