رافينيا.. الحكاية التي كتبتها أقدام حافية

رافينيا.. الحكاية التي كتبتها أقدام حافية


في غرفة متواضعة بمدينة “فلوريانوبوليس” البرازيلية، وحيث يخترق ضوء المصابيح الكهربائية الخافت ستارة بالية، جلس رافينيا في عيد ميلاده الثامن عشر، وحيداً، يحدق في شاشة الهاتف الصامتة، لا رسائل تهنئة، ولا عروض من وكلاء، ولا حتى اتصال واحد من النادي الذي كان يحلم باللعب بين صفوفه، لطالما كانت كرة القدم هي ملاذه الوحيد من قسوة الحياة، لكنها أخذت منه ولم تعطيه، الإصابة القاسية التي تعرض لها منذ أيام، أبعدته عن فريق “أفاي” للشباب، وبذلك تحولت مساعي الهروب من أزقة “بورتو أليغري” الفقيرة نحو أماكن أرحب إلى مجرد ذكرى مؤلمة، بعدها تحولت كل أحلامه إلى سراب.

ولكن لأن الرياح تأتي أحيانًا بما تشتهي السفن، فقد هبت رياح والدته هذه المرة بطيئة عليلة، تحمل في جوفها الصوت الذي غيّر كل شيء، تلك المرأة التي باعت كل ما تملك لتمويل أحلامه، دخلت عليه الغرفة وهو غارق في شجونه، لم تكن بحاجة إلى خطاب ملهم أو كلمات كبيرة، بل قالت له بمنتهى الهدوء والرصانة: “الاستسلام ليس خياراً”، كان ذلك اليوم نقطة التحول، اللحظة التي قرر فيها رافينيا أن ينهض من جديد، ليس لأنه كان متأكداً من النجاح، بل لأنه لم يعد يتحمل فكرة العيش مع الندم، أو “ماذا لو؟”.

ومنذ تلك اللحظة، ولدت داخله إرادة لا تعرف الكلل، تدريبات إضافية في الفجر، وجلسات تحليل طويلة، وساعات لا تحصى من العمل الصامت بعيداً عن الأضواء، لم يكن الطريق ممهداً بالورود حقًا، فحتى بعد عودته للملاعب، ظل الكثيرون يشككون في قدراته، لكن رافينيا كان يعرف شيئاً لم يعرفه الآخرون: “الموهبة وحدها لا تصنع الأساطير، بل الإصرار الذي لابد له أن يتحول إلى أسلوب حياة”، واليوم، بينما يخطو رافينيا على عشب كامب نو، يسجل الأهداف ويصنع اللحظات الساحرة، يصعب تصديق أنه نفس اللاعب الذي كاد أن يختفي، كل تسديدة، كل مراوغة، كل احتفال، تحمل في طياتها ذكرى تلك الأيام الصعبة، حتى عندما أصبح مجرد “خيار ثان” في صيف انتقالات مضطرب، حين فضل الجميع الحديث عن نيكو ويليامز بدلاً منه، لم ييأس، تحول الإحباط إلى وقود، والرفض إلى دافع.

ومع اقتراب مواجهات دوري الأبطال المصيرية، يقف رافينيا الآن على أعتاب كتابة فصل جديد من قصته، ربما تكون هذه هي الفرصة التي ينتظرها الجميع، أو اللحظة التي سيتحول فيها من ذلك الصبي الذي كاد أن يستسلم إلى بطل يحمل راية برشلونة في عصرها الجديد، فالأساطير، كما تعرف، تصنع عادةً في الغرف المغلقة الصغيرة، مع هاتف صامت، وقرار واحد: الاستمرار رغم كل شيء، الاستمرار حتى النهاية.

إما نحاول أمرًا

بَكى صاحِبي لَمّا رَأى الدَربَ دونَنا 

وَأَيقَنَ أَنّا لاحِقانَ بِقَيصَرا 

فَقُلتُ لَهُ لا تَبكِ عَينَكَ 

فإما نُحاوِلُ أمرًا أَو نَموتُ فَنُعذَرا

نشأ رافينيا في زوايا “بورتو أليجري” المنسية، حيث تتدلى بيوت الصفيح كشواهد على الفقر المدقع، كانت تلك المدينة العشوائية هي عالمه الصغير، عالم تختلط فيه روائح الأطعمة الشعبية بدخان الأعيرة النارية وبصاق العصابات، عالم تتحول فيه أحلام الأطفال إلى غبار في أول اصطدام مع الواقع، الغريب بين كل هذا البؤس؛ كانت هناك كرة قدم صغيرة جدا، لكنها بحجم العالم.

تلك الكرة التي ركلها رافينيا حافي القدمين على الأرضيات الترابية، والتي طاردها بين زقاقين ضيقتين حيث لا مكان للفرار إلا نحو الأمام، لم تكن مجرد لعبة فقط، بل كانت جواز سفره الوحيد من هذا الجحيم، فلقد رأى بأم عينيه كيف تحول أصدقاؤه الموهوبون واحداً تلو الآخر إلى ضحايا للشوارع والفقر والمرض، إما في السجون أو في المقابر، لكن مصيره كان يخبئ شيئاً مختلفًا.

رافينيا – برشلونة
(المصدر:Gettyimages)

والدته، تلك المرأة التي لا تعرف الكلل، كانت حارسة أحلامه، عملت في وظيفتين، لا، بل ثلاث وظائف، وربما في أي شيء يمكن أن يوفر للصغير ثمن حذاء كرة قدم غير ممزق، أو أجرة الحافلة إلى التدريبات، أما عمه فكان يوقظه في الفجر ليسير معه كيلومترات إلى الملعب البعيد جدًا، وكانت التضحيات تُقدم يومياً على مذبح حلم بدا مستحيلاً، ولكن العائلة لم تستلم، حتى عندما رفضته أكاديميات كبرى مثل إنترناسيونال وجريميو، ساخرين من بنيته النحيلة التي لا تتحمل تدخلات الكرة الاحترافية، أما نظرة المدربين المحبطين والتي كانت تشبه سكاكين مغروزة في قلبه الصغير، فقد أشعلت أشعلت ناراً في روحه.

ولذلك كان نادي “أفاي” هو الملاذ الأخير حقًا، وبين التدريبات الشاقة والمواجهات القاسية، بدأ جسده النحيل يكتسب متانة، ومهاراته تكتسب حدّة، لكن القدر كان يختبئ في الزاوية، ثم جاءت الإصابة القاسية التي أبعدته عن الملاعب، وأشعلت كل شكوكه القديمة، “هل أنا غير مؤهل لهذا العالم؟” تساءل وهو يحدق في سقف غرفته في تلك الليلة المظلمة، ثم جاءت كلمات والدته كالصاعقة: “الاستسلام يعني العودة إلى “ريستينجا”، إلى تلك الشوارع التي كافحنا لإنقاذك منها”. كانت تلك اللحظة التي تحولت فيها كل آلامه إلى وقود مدوي، فأصبح التدريب طقسه المقدس، والانضباط دينه الجديد، ولم يعد يرى الكرة مجرّد شغف، بل كمعركة وجودية، إما أن تفوز بها أو تموت محاولاً.

لقد اختار رافينيا طريقاً مختلفاً حقًا، فلم تكن هناك أضواء كاشفة تنتظره في غريميو أو إنترناسيونال، بل انتظرته رحلة شاقة عبر المحيط الأطلسي ليبدأ من الصفر في نادي “فيتوريا جيماريش” البرتغالي حيث كانت المحطة الأولى، والتي حوّل فيها ملعب “دوم أفونسو هينريكس” إلى مسرح لعروضه المتفجرة، لم يكن مجرد جناح سريع، بل كان قوة طبيعية تزلزل دفاعات الخصوم، تاركاً المدافعين يتساءلون: “من هذا الفتى الذي جاء من العدم؟”، ومن فيتوريا إلى سبورتينج لشبونة، أضاف إلى مهاراته البرازيلية الصافية انضباطاً أوروبياً صارماً، وتحول بين ملاعب جوزيه ألفالادي من موهبة واعدة إلى نجم قادر على قلب موازين المباريات.

وكل ذلك جيد حقًا، لكن القفزة الحقيقية جاءت عندما انتقل إلى “رين” الفرنسي، حيث أذهل الدوري كاملًا بلمساته السحرية وقدرته على صنع اللعب من العدم، كانت عروضه تذكّر النقاد بالنجوم البرازيليين العظام، لكن مع شيء مختلف: جوع لا يشبع، وإرادة لا تلين، كما لو كان يحمل في داخله ذكرى كل التضحيات التي قدمتها عائلته في “بورتو أليجري”، وهنا جاءت لحظة التحول الكبرى، عندما لفت أنظار “مارسيلو بييلسا”، ذلك المدرب المجنون العبقري الذي لم يرَ في رافينيا مجرد موهبة، بل رأى ما لم يره الآخرون.

تطيب الحياة

على الرغم من وصول رافينيا متأخراً إلى “إيلاند رود”، في الأيام الأخيرة فقط من سوق الانتقالات، إلا أن الحقيقة تكشف أن اسمه كان يرسم على قوائم ليدز منذ وقت طويل، الغريب في الأمر أن المدرب مارسيلو بيلسا ومدير الكرة فيكتور أورتا كانا يتتبعان مسيرته بشكل منفصل، كل منهما يدرس مواصفات الجناح البرازيلي دون أن يعلم الآخر، حتى تصادف أن ظهر اسمه في حديث بينهما فاكتشفا هذا الاهتمام المشترك، حيث كان رافينيا تجسيدًا حيًا لكل ما يحلم به الثنائي في لاعب من هذا الطراز: سرعة مدمرة، أسلوب مباشر كالسهم، ومهارة نادرة في استخدام كلتا قدميه، لكن المشكلة كانت في موقف نادي رين الصارم، الذي أصر حتى اللحظات الأخيرة على أن البرازيلي “لاعب غير قابل للتفاوض”.

كان الفريق الفرنسي يخوض غمار تصفيات دوري أبطال أوروبا، ولم يمضِ سوى عام واحد فقط على انتقاله من سبورتينغ لشبونة في صفقة بلغت 20 مليون جنيه إسترليني، وهي قيمة ناضل النادي الفرنسي بشدة لتأمينها، ولذلك فقد تعاملوا مع الأمر في مكتب ليدز بنفس العقلية التي اتبعوها عند محاولة تعيين بييلسا نفسه في 2018: “إن نجحنا، فسيكون الأمر رائعاً حقًا، لكن الفرص ضئيلة للغاية”، وبينما كانت الساعات تنقضي، بدأ الفريق الإنجليزي يستعد لرسم بعض السيناريوهات البديلة، لكن كما هو الحال في أفضل القصص، جاء الحل من حيث لا يتوقع أحد.

لم يكن أحد في ليدز يتوقع أن تأتي الفرصة بهذه السرعة، أو بهذا السعر المدهش. فجأة، وبلا مقدمات، أعلن نادي رين استعداده لبيع رافينيا – اللاعب نفسه الذي كان يعتبره الجميع “لاعبًا غير قابل للبيع” قبل أيام قليلة فقط، الأكثر غرابة أن قيمة الصفقة المقترحة كانت أقل مما دفعه رين نفسه لسبورتينغ قبل عام واحد فقط (20 مليون جنيه إسترليني)، رغم أن البرازيلي كان أحد الأعمدة الرئيسية في تحقيق الفريق الفرنسي للمركز الثالث في الدوري، حيث كشفت مصادر مقربة من “ذا أثليتيك” أن الإدارة الجديدة في رين اعتقدت أن مجلس الإدارة السابق أفرط في دفع المال لضم رافينيا، ولذلك عندما عبر اللاعب عن رغبته في الرحيل، لم يترددوا في الموافقة على عرض أقل من ليدز.

رافينيا - هانز فليك
رافينيا – هانز فليك

المفارقة الغريبة، أن رافينيا شارك أساسيًا مع رين في مباراتهم ضد ريمس (2-2) قبل يوم واحد فقط من انتقاله، حيث قدم أداءً مذهلاً سجل فيه هدفًا وصنع آخر، وكاد يسدد كرة مقصية أسطورية، بعد المباراة، تحولت غرفة الملابس إلى مسرحية مؤثرة، حيث حاول زملاؤه ومدربه “جوليان ستيفان” إقناعه بالعدول عن قرار الرحيل، لكن القرار كان قد اتخذ فعلًا، ففي تلك الليلة نفسها، أقلعت طائرة رافينيا متجهة إلى إنجلترا، حيث هبط قبل منتصف الليل بقليل، فانفرجت العقدة، وتمكن ليدز من انتزاع الصفقة التي ستثبت لاحقاً أنها من أنجح انتقالات النادي الإنجليزي في السنوات الأخيرة.

أجرى ليدز الفحص الطبي في الصباح الباكر، متوقعين إتمام الصفقة بسرعة، لكن تعقيدات الأوراق والمستندات أجلت الإعلان الرسمي حتى الساعات الأخيرة من السوق، دخل رافينيا ملعب إيلاند رود حوالي السابعة مساءً، حيث بدأ فورًا في جلسات التصوير والتسجيلات الترويجية، بين التاسعة والعاشرة مساءً، جف الحبر على العقد، وتم الإعلان الرسمي قبل نصف ساعة فقط من إغلاق السوق، لكن هذه المرة، على عكس صفقة “دان جيمس” الفاشلة عام 2019، لم تكن هناك أي مفاجآت غير سارة.

في ليدز يونايتد، تحت قيادة “إل لوكو” الصارمة، خضع البرازيلي الصغير لأصعب اختبار في مسيرته. تدريبات لا تنتهي، أنظمة تكتيكية معقدة، مطالب بدنية تفوق الخيال، كانت مدرسة كروية لا ترحم. لكن من بين كل هذا العذاب، خرج رافينيا بأسلوب لعبه المتفجر الذي أصبح أكثر استدامة، تعلّم كيف يتحرك بذكاء بدون كرة، وكيف يحافظ على وتيرته العالية لمدة 90 دقيقة، لقد كانت عملية تحول مؤلمة حقًا، لكنها كانت ضرورية مثلما كان الحديد ضرورياً لصقل السيف.

هذه الرحلة الشاقة، من ملاعب البرتغال المتواضعة إلى مدرسة بييلسا القاسية، هي ما جعلت من رافينيا اللاعب الذي هو عليه اليوم، كل محطة كانت تضيف طبقة جديدة من الخبرة إلى موهبته الطبيعية، كل مدرب كان يمنحه درساً جديداً، وكل تحدٍ كان يزيد من إصراره على النجاح، لم تكن الطريق ممهدة بالورود كما نعلم جميعًا، لكنها بالتأكيد هي التي صنعت منه لاعب برشلونة المرشح للفوز بالكرة الذهبية هذا العام.

 

 

 
 

 
 

عرض هذا المنشور على Instagram

 

 
 
 

 
 

 
 
 

 
 

 
‏‎تمت مشاركة منشور بواسطة ‏‎365Scoresarabic‎‏ (@‏‎365scoresarabic‎‏)‎‏

السيارة لا ترجع إلى الخلف

في صالة منزله الرياضية، وقف رافينيا أمام السبورة البيضاء بقلم ملون في يده، ينظر إلى موسم مضطرب كان يمكن أن يكون نقطة، لولا القدر، موسم 2023-2024 لم يكن مجرد فصل عادي في تاريخ برشلونة، بل كان اختباراً حقيقياً للجميع؛ اضطرابات إدارية، أزمات مالية، وأداء متذبذب على أرض الملعب ترك الجميع يشعرون بمرارة في حلقوهم، حتى على المستوى الشخصي، لم يكن الوضع أفضل؛ فلم يحظَ البرازيلي بثقة كاملة من تشافي، حيث شارك كأساسي في 90 دقيقة فقط ست مباريات طوال الموسم، لكن بدلاً من الاستسلام للإحباط، اختار رافينيا أن يجعل من هذه التجربة وقوداً لانطلاقته الكبرى، وبيد ثابتة، بدأ بكتابة مستقبله على تلك السبورة البيضاء: عدد الأهداف التي يطمح لتسجيلها، التمريرات الحاسمة التي يريد تقديمها، والألقاب التي يتوق لرفعها، كانت تلك اللحظة الحاسمة حيث قرر أن يتحول من لاعب واعد إلى نجم لا يمكن الاستغناء عنه.

وهو ما تحقق فعلًا، حيث حمل رافينيا في جعبته العديد من الإحصائيات تثبت أنه أصبح عموداً أساسياً في الفريق هذا الموسم، 28 هدفاً في جميع البطولات، وهو رقم يفوق ما سجله في موسميه الأولين مع النادي الكتالوني مجتمعين، 20 تمريرة حاسمة تثبت أنه ليس مجرد هداف، بل صانع ألعاب جيد، أي إجمالي 48 هدفاً مسجلاً أو مصنوعاً (من أصل 146 هدفاً لبرشلونة هذا الموسم)، وهو ما جعله متوفقًا حتى على نجوم مثل ليفاندوفسكي (43) ويامال (31)، وعلى مستوى الدوريات الأوروبية الكبرى، لم يتجاوزه سوى محمد صلاح (55) في هذا الجانب.

الأرقام لا تكذب، قد تخادع قليلًا، وقد لا تفي بسرد القصة وحدها، لكنها تقدم لنا لمحات ذكية فعلًا، تكشف عن التحول الجذري الذي يشهده رافينيا هذا الموسم، تلك الأرقام المذهلة ليست مجرد بيانات جافة أو صماء، بل هي شهادة على صحوة موهبة برازيلية استثنائية فعلًا، حيث تحول ذلك اللاعب الذي كان يحارب للحصول على بضع دقائق في الموسم الماضي إلى أحد أكثر اللاعبين تأثيراً في أوروبا، أما تلك السبورة البيضاء التي رسم عليها أحلامه، فلم تكن مجرد أمنيات لزجة في ليلة ظلماء، بل كانت خريطة طريق لتحقيق ما بدا مستحيلاً، من شبه الغياب إلى التألق، من التشكيك إلى التتويج، والآن، بعد الانتهاء من معضلة بروسيا دورتموند والذهاب إلى نصف نهائي دوري الأبطال، يقف الرجل على أعتاب كتابة تاريخ جديد، متذكرًا تلك اللحظة التي قرر فيها أن يغير مسار الأمور.

العملية هانز فليك

لم يكن تحسن أداء رافينيا هذا الموسم وليد الصدفة، بل جاء نتيجة تحول استراتيجي دقيق في طريقة استخدام مواهبه، ففي موسمه الأول ببرشلونة، وجد البرازيلي نفسه عالقاً في مأزق تكتيكي، فعلى الرغم من كونه جناحًا أيمنًا جيدًا في فرقه السابقة، حيث أذهل الجميع بقدرته على استغلال المساحات في الهجمات المرتدة السريعة، إلا أن هذه الميزة لم تكن تناسب أسلوب برشلونة الذي يواجه عادةً دفاعات متراصة، ومساحات ضيقة للغاية، الأمر ازداد تعقيداً مع ظهور لامين يامال، النجم الصاعد الذي أضاف بعداً جديداً للهجوم من الجهة اليمنى، حيث دفع هذا التحول رافينيا إلى الجهة اليسرى، فواجه صعوبات شديدة في التأقلم. “كنت أشعر بأنني مقيد بعض الشيء”، اعترف لاحقاً، لكن ما حدث بعد ذلك كان درساً في الاحترافية والتكيف.

وخلال العطلة الصيفية، أعاد رافينيا تقييم أدواره، حيث قال في مؤتمر صحفي قبل مباراة بايرن ميونيخ التاريخية: “أدركت أن اللعب في نادٍ مثل برشلونة يتطلب مرونة أكبر”، هذه العقلية الجديدة مكنته من إعادة اختراع نفسه تحت قيادة هانزي فليك.

اليوم، لم يعد رافينيا ذلك الجناح التقليدي المحصور على الخط الجانبي. بدلاً من ذلك، تحول إلى لاعب هجين يجمع بين عدة أدوار: حيث يبدأ عادةً من الجهة اليسرى قبل أن يتحرك بذكاء نحو الداخل، ليشارك بشكل فعال في بناء الهجمات، قبل أن ينطلق في توقيت دقيق خلف ظهر الدفاع، أو يعود بجدية للمساعدة في التغطيات الدفاعية، كما أن البيانات الحديثة المقدمة من “Skill Corner” تكشف عن أداء بدني مذهل أيضًا، إذ يسجل معدلات خيالية في الارتداد للدفاع، ويتصدر قوائم الركض عالي الكثافة (أكثر من 20 كم/ساعة)، ويحافظ على وتيرة عالية حتى الدقائق الأخيرة.

كما يخلق رافينيا بتحركاته المتعددة تأثيراً تكتيكياً مزدوجاً، يعيد تشكيل دفاعات الخصوم لصالح برشلونة. أولاً، تحركاته الجانبية الدائمة تشكل كابوساً للمدافعين، حيث تجبرهم على الاختيار المستحيل بين ملاحقته أو ترك المساحات خلفهم، ثم أن هذا الانزياح المستمر يحرر المساحة الحيوية لزميله الصاعد لامين يامال على الجهة المقابلة، الذي يجد نفسه فجأةً أمام مساحات أوسع للاختراق، أما التأثير الثاني فيتمثل في إعادة تشكيل خريطة الهجوم الكتالوني. هذه الحركات الذكية تخلق ملاذاً مثالياً لروبرت ليفاندوفسكي، الذي لم يعد يمتلك نفس القوة البدنية السابقة، فبدلاً من الاضطرار للتنافس جسدياً مع المدافعين، بات البولندي يعمل كـ”صانع مساحات” ذكي حول منطقة الجزاء، مستفيداً من الفوضى التي يسببها رافينيا في خطوط الدفاع.

معلومات عن مباراة برشلونة ضد ريال بيتيس في الدوري الإسباني
رافينيا – برشلونة – المصدر: (Getty images)

والنتيجة؟ تحول نوعي في أداء رافينيا نفسه:

نفس عدد التسديدات تقريباً، ولكن من مواقع أكثر خطورة.

تحول من التسديدات من خارج الصندوق إلى فرص واضحة داخل المنطقة.

معدل تحويل فرص الأهداف ارتفع بنسبة 35% مقارنة بالموسم الماضي.

68% من أهدافه هذا الموسم سجلها من داخل الصندوق مقابل 42% الموسم الفائت.

هذه الديناميكية الذكية حولت رافينيا من جناح تقليدي إلى ما يشبه “الشبح الذكي” الذي يقرأ الفراغات ويستغلها ببراعة، فكل حركة يقوم بها ليست عشوائية، بل محسوبة بدقة لتخدم زملاءه وتفتح له الطريق نحو المرمى، الأمر يشبه لعبة الشطرنج ولكن على العشب الأخضر، ولكن لكي تكتمل الصورة، يجب النظر بشكل أعمق للأرقام خلف التمريرات الحاسمة أيضًا، فعلى الرغم من انخفاض معدله قليلاً إلى 0.48 تمريرة حاسمة لكل 90 دقيقة مقارنة بـ0.51 الموسم الماضي، إلا أن هذه الإحصائية تخفي حقيقة مثيرة للاهتمام؛ أن الانخفاض الطفيف لا يعكس تراجعاً في إبداعه أو رؤيته، بل على العكس تماماً، فهو يمرر الآن تمريرات حاسمة متوقعة (xA) أكثر من أي وقت مضى، الفارق هنا يكمن في تحسن كفاءة زملائه في إنهاء الهجمات، حيث أصبحت العديد من تمريراته الذكية تتحول مباشرة إلى أهداف دون الحاجة إلى محاولات إضافية.

فليك حول برشلونة إلى فريق لا يرحم.. أسباب تجعله بطلًا لأوروبا

ولم يعد أداء رافينيا مقتصراً على الهجوم فقط، فقد تحول إلى لاعب متكامل يترك بصمته في كل أنحاء الملعب، إذ تكشف الأرقام أيضًا عن تطور لافت في أدائه الدفاعي، ورغم أن تدخلاته في الثلث الدفاعي قد تراجعت إلى 0.28 لكل 90 دقيقة مقارنة بـ0.59 الموسم الماضي، إلا أن ذلك ليس بسبب تقاعسه، بل لأن دوره أصبح أكثر تركيزاً على تنظيم الضغط الهجومي وإثارة الفوضى في صفوف الخصوم، كما تحول إلى محرك أساسي لآلية الضغط العالي التي يعتمدها برشلونة، حيث تظهر براعته في قطع خطوط التمرير وإجبار المدافعين على ارتكاب الأخطاء.

هذه النقلة النوعية لم تمر دون أن يلاحظها هانزي فليك الذي صرح بإعجابه قائلًا: “إنه يلعب بكثافة نادرة، صدقًا، لم أشاهد لاعباً بمثل هذه الطاقة من قبل”. وبالطبع هذا الإطراء لم يأتِ من فراغ، فالثقة بين المدرب واللاعب أصبحت متبادلة، وإليك مثالًا: بعد خروج البرازيل المبكر من كوبا أمريكا، كان فليك أول من اتصل برافينيا لينصحه بعدم الاستعجال في اتخاذ أي قرارات مصيرية، وهي لفتة شخصية أثرت عميقًا في نفسية اللاعب، بل وربما جعلته أجهز وأفضل من قبل على المستوى النفسي، حيث اختير كأحد قادة النادي الخمسة بعد تصويت لاعبي الفريق الأول، وهو انعكاس لمكانته في الفريق.

اصطدام وشيك

لكن رغم كل هذا التطور، تبقى هناك تحفظات حول قدرة رافينيا على الحفاظ على هذا المستوى المرتفع من الأداء، إيقاعه المحموم وطاقته الهائلة قد يكونان سلاحاً ذا حدين، فبينما يجعله هذا الأسلوب لاعباً لا يعرف الكلل، فإنه يزيد أيضاً من خطر الإصابات والإرهاق، خاصة مع كثرة المباريات وتنوع البطولات، بعض الخبراء يشيرون إلى أن معدل الجري الهائل الذي يحافظ عليه (والذي يتجاوز بكثير متوسط معظم لاعبي الدوري الإسباني) قد لا يكون مستداماً على المدى الطويل، خاصة وأن الجسد له حدود، فليك يدرك ذلك جيداً، ولهذا بدأ في إدارة مشاركته بحكمة أكبر، خاصة في المباريات الأقل أهمية، لكن مع اقتراب المواجهات الحاسمة في دوري الأبطال، سيكون على رافينيا أن يجد التوازن الصعب بين الحفاظ على وتيرته العالية وضمان استمراريته طوال الموسم.

وهنا يبقى السؤال: هل سيتمكن “البرق البرازيلي” من الحفاظ على هذا الإيقاع دون أن يدفع الثمن لاحقاً؟ ولماذا تدور فكرة الاستغناء عنه الصيف القادم رغم كل تلك المميزات؟.

الحقيقة هو سؤال صعب، خاصة وأن رافينيا لاعب يستحق أن يكال له المديح فعلًا بعد هذا الموسم الرائع الذي يقدمه الآن، لكن المشكلة أن البرازيلي لم يشهد تحولاً جذرياً في مهاراته الأساسية، بل أعيد توظيفه بذكاء في نظام فليك الذي يحجب عيوبه ويكثف مزاياه، وما نراه اليوم هو نفس الجناح الذي عانينا معه سابقاً في المواجهات الفردية، لكنه داخل إطار تكتيكي يقلل من تعرضه لهذه المواقف الحرجة، أي أن رافينيا ظل أسير نفس القيود التقنية، بينما نجح الجهاز الفني في تحويله إلى “عداء متخصص خلف الخطوط”، يستفيد من سرعته الفائقة في الهجمات المرتدة والمساحات العميقة، ولذلك فالنجاح الحالي يعتمد على نظام يضخم نقاط قوته بينما يخبئ نقاط ضعفه بعناية فائقة.

البرازيلي لم يتغير جذرياً، بل أعيد اكتشافه فقط، وهذه الحقيقة لا تنقص من قيمته الحالية، لكنها تطرح تساؤلات مشروعة عن مدى استدامة هذا النموذج، ولذلك فربما حان الوقت لتحويل هذه التجربة الناجحة إلى ربح مادي واستثماره في لاعب أكثر تكاملاً، ربما، وربما أيضًا يستطيع الرجل كتابة فصل جديد في تاريخ النادي بدلاً من الاكتفاء بأن يكون مجرد حلقة في سلسلة من التجارب التكتيكية المؤقتة، لكن في كلا الحالتين يظل الرجل لاعبًا جيدًا فعلًا، بل ومستحق لكل كلمة مديح في حقه، ومهما كانت الخيارات المقبلة، فإن إرثه باقٍ، سواء كبطل مؤقت أو كأسطورة دائمة، والأهم من ذلك؛ أن النادي يستفيد من هذه المرحلة بذكاء، لأن الفرص الذهبية لا تتكرر دائمًا، والنجاح الحقيقي يكمن في تحويل اللحظة إلى إرث، إرث بدأ في غرفة متواضعة بمدينة “فلوريانوبوليس” البرازيلية، وربما لن ينتهي أبدًا.