استثمار الإمارات في الجينوم والطب الدقيق.. رهان تنموي لعافية مديدة وعدالة صحية شاملة


مع اختتام فعاليات أسبوع أبوظبي العالمي للصحة 2025 في دورته الثانية التي أقيمت في مركز أبوظبي الوطني للمعارض «أدنيك» بتنظيم من دائرة الصحة في أبوظبي تحت شعار «نحو طول العمر: إعادة تعريف الصحة والرفاهية» برزت رسالة واضحة مفادها أن مستقبل الرعاية الصحية أصبح شخصياً وأن جودة الحياة هي المعيار الأساسي للعمر المديد والمعافى.
وأكد المشاركون أن أبوظبي تتصدر المشهد في تمكين هذا التحول من خلال رؤية استباقية قائمة على الانتقال من علاج الأمراض إلى التنبؤ بها والوقاية منها عبر تقنيات الجينوم، والذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات الشخصية.. فالهدف اليوم لم يعد أن نعيش طويلاً فقط، بل أن نعيش بصحة أفضل لأطول فترة ممكنة مع ضمان العدالة في الوصول إلى الرعاية الصحية.

الأرقام ترسم الملامح

ففي ظل ما يشهده العالم من تحديات صحية متزايدة، وأمراض مزمنة، وشيخوخة سكانية متسارعة، ركز المنتدى على أهمية الطب الدقيق وعلم الجينوم كحجر زاوية للانتقال من مفهوم الرعاية الصحية إلى الصحة الاستباقية.. يطمح الطب 3.0 إلى أن يجعل الإنسان يعيش حتى الـ80 أو 90 ولكن كأنه في سن الـ50 من حيث الوظائف الصحية.

استراتيجية طموحة

اعتمدت دولة الإمارات في منظومتها الصحية الوطنية نهج الاستثمار في تطوير البنية التحتية الجينية، بهدف أن تصبح مركزاً عالمياً للرعاية الصحية الشخصية والتنبؤية والوقائية.ويعد برنامج الجينوم الإماراتي الأكبر عالمياً الخطوة الأولية والأساسية نحو الطب الدقيق القائم على الجينوم البشري، حيث يعمل كمعيار لدراسة التنوع الجيني بين سكان دولة الإمارات العربية المتحدة والمنطقة.كما يساعد في العثور على الطفرات والتغيرات الجينية المرتبطة بالأمراض، وهو جانب أساسي لفك الرموز الجينية المسببة للأمراض وتطوير مساراتها نحو العلاجات المستهدفة والحصول على التشخيص وعلاجات الطب الشخصي.ولعبت دائرة الصحة في أبوظبي دوراً رئيسياً في برنامج الجينوم المرجعي الإماراتي بالتعاون مع جامعة خليفة وM42 بالإضافة إلى منظمات أخرى لتشكيل منهجية متكاملة للجينوم المرجعي الإماراتي.ويعد مشروع الجينوم الملف الجيني لكل فرد لتخصيص العلاج المناسب وتحسين نتائج الرعاية تحولاً جوهرياً مقارنة بالنماذج العلاجية التقليدية.

العدالة الصحية هي الأساس

ما يعزز أهمية الاستثمار في الطب الدقيق داخل دولة الإمارات هو تنوعها السكاني الفريد، إلى جانب انتشار الأمراض المزمنة مثل السكري وأمراض القلب والسرطان. ومن خلال مواءمة العلاج مع الخلفية الجينية والبيئية للمريض، تسعى الدولة إلى تقليل فجوات الوصول إلى الرعاية وتحقيق العدالة الصحية.ورغم ارتفاع تكاليف الطب الدقيق عالمياً تم التأكيد خلال أسبوع أبوظبي العالمي للصحة أن طول العمر لا يجب أن يكون رفاهية، كما أكد المتحدثون في المؤتمر أن الابتكار الحقيقي لا يتحقق دون شمول وعدالة. وتهدف العدالة إلى ضمان توزيع منافع الطب الدقيق بشكل متساوٍ، والحد من الفجوات الصحية، وتعزيز نظام صحي أكثر توازناً وإنصافاً. وتتجسد العدالة، وفق تقرير أوليفر وايمان، في عدة نقاط، منها تنوع البيانات الجينية المجمّعة والوصول العادل إلى خدمات الجينوم والرعاية الوقائية والأطر التنظيمية والأخلاقية.التنوع السكاني في دولة الإمارات -مع أكثر من 200 جنسية- يشكل فرصة نادرة للبحث الجيني الشامل، لكنه يتطلب في الوقت ذاته إطاراً أخلاقياً وتنظيمياً صارماً لحماية الجميع.

حوكمة البيانات.. أساس الثقة

تستند استراتيجية أبوظبي الصحية إلى ثلاث ركائز رئيسية: التكنولوجيا، والحوكمة، وتطوير الكفاءات.. وتشكل حوكمة البيانات الأساس الأخلاقي والقانوني لضمان استخدام آمن وفعال للبيانات الجينية.وتتبع دائرة الصحة- أبوظبي نموذجاً تشغيلياً ثلاثي الركائز لحوكمة الجينوم، يتضمن وضع معايير تنظيمية لحماية خصوصية البيانات وإنشاء منصات مؤمنة للبيانات وإشراف سريري ومجتمعي يضمن الاستخدام الأخلاقي وتكامل الذكاء الاصطناعي بطريقة مسؤولة تحترم سيادة البيانات الصحية.

شراكات عالمية تغذي الابتكار

إلى جانب الصحة، تسعى أبوظبي إلى ترسيخ مكانتها كمركز عالمي للاستثمار في التكنولوجيا الحيوية.. فبحسب أسبوع أبوظبي العالمي للصحة، بلغ حجم الاستثمار العالمي في البحث والتطوير الصحي عام 2024 نحو 265 مليار دولار، أسهم القطاع الخاص بنحو الثلثين منها.وعلى الصعيد العالمي، قُدّرت قيمة سوق الطب الدقيق في عام 2024 بـ102.17 مليار دولار، مع معدل نمو سنوي مركب متوقع يبلغ 16.5% حتى عام 2034، ما يجعل استراتيجية أبوظبي خطوة متقدمة وذات جدوى اقتصادية وعلمية كبيرة.تحقق دولة الإمارات تقدماً ملحوظاً بفضل شراكاتها الدولية، وتوظفها في دعم برامج الصحة العامة، من بناء بنوك الجينات، إلى الكشف المبكر عن الأمراض، وصولاً إلى مراقبة صحة السكان.. هذه الشراكات تعكس التزام الدولة بدمج الابتكار القائم على البيانات في سياساتها الصحية.تشمل الاستثمارات بناء مراكز بحثية في علم الجينوم، وتطوير تشخيصات طبية مدعومة بالذكاء الاصطناعي، إلى جانب إنشاء مناطق حرة لعلوم الحياة، وكلها تهدف إلى جذب الاستثمارات وتعزيز مكانة الدولة كوجهة عالمية في السياحة العلاجية.وتمضي الإمارات سريعاً لتأسيس مستقبل لا يُبنى فقط على العلاج، بل على الوقاية، والإنصاف، والابتكار السيادي، وربما تكون أبوظبي أول من وضع الجينوم في قلب نموذجها التنموي، لكن السؤال الحقيقي هو من سيكون التالي في تبني هذه المنهجية خاصة أن نصف سكان العالم محرومون من الخدمات الصحية الأساسية ويتكبدون تكاليف علاجية باهظة حدّت من أهداف البنك الدولي في مكافحة موجة الفقر متزايدة الانتشار.